الاثنين، 27 يناير 2020

مدوَّنات حنيف قرشي المتبدِّلة*

مدوَّنات حنيف قرشي المتبدِّلة*
ثمّة أمرٌ مطروح للنقاش: حنيف قرشي هو الكاتب الإنجليزي الأكثر إيحاءً خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة. روايته الأولى والأكثر شهرة «بوذا الضواحي»، (1990)، هي أيضاً- من وجهة نظر محايدة- أفضل أعماله. راويها، كريم أمير، فتى يافع، نصف هندي نشأ في ضواحي لندن الجنوبية في السبعينات (رجل إنجليزي وُلِد وتوالَدَ، تقريباً) برغبة مُلِحّة في الانتقال إلى المدينة. في بداية القصّة، وقع والده، هارون، سليل عائلة هندية ثريّة، في شراك عملٍ مأجورٍ على نحو سيِّئ في الخدمة المدنية، أعاد اختراع نفسه فجأةً كمعلِّمٍ للفلسفة الشرقية، سرعان ما بدأ فيما بعد علاقة غرامية. حطّم السقوطُ العائلة، ووضع (كريم) على رصيف لندن. هناك في الخلفية مصائب أنور، الذي سافر إلى إنجلترا مع هارون عام 1950 وهو الآن يدير محلّ بقالة. أصبحت ابنته جميلة ناشطة ونسوية راديكالية، لكن هذا لا يمنع أنور الحَذِر عادةً من إجبارها على زواجٍ مُدَبَّر برفض تناول الطعام حتى توافق.
تنجح «بوذا الضواحي»، فضلاً عن كونها ساخرة ومضحكة للغاية، في أن تكون ذلك الشيء النادر بغرابة: رواية لندن الجيدة حقيقة. العاصمة هي الشخصية المتكرِّرة العظيمة في كتابات قرشي، والجاذب الضخم لتخيُّلات أبطاله، لذا فهم يميلون إلى التفكير، بحَلّ لمعوقاتهم. ومثلها مثل العمل الآخر الذي صنع شهرة قرشي،نصّه السينمائي لستيفن فريرز «غسالتي الجميلة»، 1985 لا تتجاهل «بوذا الضواحي» التفرقة العنصرية أو صعوبات إيجاد مكان في بلد غير مضياف، لكنها تبقى قصّة مبهجة بشكل أساسي. تهتمّ الحكايتان بدرجة أقلّ بقلق عدم الانتماء من متعة ألا تكون مضطرّاً للالتصاق بأيّ مكان. صورتاهما عن شابين مشبعين بحسّ التغيير والتعدُّدية الثقافية. وصف قرشي عمله المبكّر بأنه «واقعية إنجليزية جديدة»، ما يجعله فخماً، لكن، بعد تفكير عميق، أليست هذه علامة سيئة لفترة ظهر التنوُّع فيها منطلقاً ونهائياً في وضح النهار البريطاني.
حتى الآن ثمّة عِقدٌ ينظم روايات قرشي كلّها؛ مسألة الهويّة ما بعد الاستعمارية بدرجة أقلّ من مسألة كيفية ارتباط الهياج المتروبوليتاني للفن، الفلسفة الدخيلة والشعور البوهيمي الذي يجده كريم فاتناً جداً. هل هذا هروب؟ وإذا ما كان كذلك، أهو تقدُّم أم مجرَّد طريقة في الاختباء؟ للأسف، بدأ الأدب الروائي لدى قرشي بالتفكُّك بعد روايته الأولى. وجزء من المشكلة هو أنه يجد صعوبة في إحياء هذه المسائل بطريقة قهرية.
«الألبوم الأسود» (1995)، كُتبت في ضوء الفتوى ضدّ سلمان رشدي، تصف كاتباً طموحاً محاصَراً بين متطلَّبات مجموع الجالية الإسلامية ومتع المدينة الكبيرة، لكن النزاع يبدو ثنائيّ البعد مقارنةً بـ «بوذا الضواحي». الكتب اللاحقة من مثل «حميمية» (1998) أو «شيء ما أخبرك به» (2008) تتحدَّث عن مشاكل خاصة لرجال ناجحين، في منتصف العمر، وتنمّ عن تناقضٍ يخصّ المساعي الإبداعية التي لم تحدث لأبطاله الشبان أبداً ببساطة. من الصعب قراءتها دونما التفكير أحياناً بأن الحياة كفنان محترف لا يمكن أن تكون- حتى الآن- بعيدة عن بينجين في النهاية، فقط روتين متعبٌ أكثر فتنة قليلاً من الفتور العائلي، وضع القلق والعمل.
ما من واحد من بين هذه الكتب سيِّئ بمجمله، لكن حتى قراءة متساهلة جداً لا بدّ أن تجعلك تجدها متفاوتة. يعرف قرشي كيف يكتب بعض التحليل النفسي المهني، وربما يوجد، في كلّ رواية نشرها، صورة لا تُنسى للأب فيها. لكنه ميّال إلى الكليشيه وإرضاء الرغبة. «حميمية» هي مونولوج يحرِّكه الشعور بالذنب لرجل على وشك فقدان لعائلته، يضحّي بالكثير لأجل نهاية سعيدة بابتذال. «شيء ما أخبرك به» هي فوضى مترامية الأطراف تتخلّلها مشاهد جنسية غير متوقَّعة ونوبات تثير الاشمئزاز من عبادة المشاهير.
تدور رواية «الكلمة الأخيرة»، روايته السابعة، حول غاية الفنّ بشكل مباشر. ويفترض أنها بنية السيرة الذاتية الأدبية. هاري جونسون كاتب له من العمر ثلاثون عاماً، أشقر ووسيم، يبدأ بالقلق على مهنته. ويتمّ التعاقد معه لكتابة سيرة ذاتية عن مأمون عزام، عملاق أدبي من شبه القارة الهندية في سبعينياته الآن، ويعتاش من عمل جزئي في الريف البريطاني. عزام محاط بمشاكل مالية؛ «كونه عقلانياً جداً، عنيداً ومروعاً ليُقرأ على نطاق واسع… بالرغم من التقدير والجوائز»، ما جعل إعلان السيرة الذاتية المتصدّر لعناوين الصحف، في مصلحة جميع الأطراف. كما سيدرك القارئ النبيه سريعاً قالب هذا السيناريو المقتبَس من السيرة المصرَّح بها لباتريك فرينش عن ف.س نايبول، «العالم ما هو عليه» (2008)، ويضمن قرشي جزءاً كبيراً من «السيد فيديا» في مأمون. منزل نايبول في ويلتشاير الريفية، زواجه البائس الأول من باتريسيا هالي. وطباعه السيئة الشهيرة كلّها تجدها هنا في «الكلمة الأخيرة».
يبـــدو أن كوميديــــا الكانتـــري الويدهاوسية في بال قرشي، من ناحية. في حين يتصارع هاري ومأمون على سيرة الرجل العظيم، مجموعة من شخصيات بألوان أساسية تدور في فلكهما. هناك ليانا، زوجة مأمون، إيطالية ثائرة ترتدي «جوارب الشبك وأحذية طويلة الساق» وتبقي مأمون تحت السيطرة مستخدمةً طبخاتها. زيارات تقوم بها أليس خطيبة هاري، ومحرّره روب نصف المختل. في الختام هناك جوليا، خادمة مأمون، وكذلك أيضاً عائلتها من منطقة مجاورة ملأى «بالفاقة الإنجليزية شبه العنيفة والمملّة بشكل يائس بفعل سنوات الاستثمار الحكومي». تنشأ مشاجرات عنيفة، أسرار العائلة أُخفِيت، مخدِّرات ابتُلِعت، وشبح يظهر، وهاري وجوليا يبدأان علاقة. يمكن للمرء تخيُّل أن المهزلة تنجح، أو على الأقل، تكون أفضل على خشبة المسرح. تشبه العلاقة المركزية بين هاري ومأمون المواجهة بين أجزاء مختلفة من الصورة الذاتية الأدبية لقرشي. الكاتب الأكبر هو رؤية الفنان على أنه بعيد النظر، «منشقّ… منساق مع تخيُّلاته المعقولة واللامعقولة، الدنيا والعليا، الحلم والعالم، الرجال والنساء». على الجانب الآخر هو فتى- رجل يدور عبر النساء، ويدّعي الاشمئزاز من فكرة السقوط في «الحياة، العادية البرجوازية»، بالرغم من أنه لا يملك أيّة فكرة صلبة حول أيّ شيء آخر يمكن أن يكونه. يحسد هاري مأمون، ويبدو مصعوقاً من فكرة أن رجلاً مسنّاً سيبيِّن له أنه نصف موهوب. لكن، طالما أنه- أيضاً- قد أُعطِي شهادة ليروي قصّة الكاتب للعالم، هو يعلم بأنه لديه سلطة معتبرة عليه. كذلك.
هناك فكرة مثيرة للاهتمام هنا، عمّا يمكن أن يعني لكاتب أن تُسلَب حياته منه من قِبَل آخر، لكن التنفيذ يجعلها تفشل. القدرة على الانزلاق بسهولة بين الفكاهة المنحلّة والاكتراث، كانت واحدة من امتيازات عمل قرشي الأول. في «بوذا الضواحي»، على سبيل المثال، يلقى أنور الفقير حتفه بعد أن لَكَمَه زوج ابنته المستقدم، الكسول المسمّى شانجيز، في رأسه بدسار في دفاع عن النفس. لقّب كريم وجميلة شانجيز على جناح السرعة بـ «قاتل الدسار». لكن بشكل مباشر- تقريباً- تحوَّل المشهد إلى شيء أليم. يقول والد جميلة: «لقد مات في الوقت الخطأ، عندما كان هناك الكثير مما ينبغي توضيحه وترسيخه. حتّى لم يتح لهما أن ينضجا معاً. كان هناك هذه الرقعة الصغيرة من الجنة، هذه الفتاة الصغيرة التي كان سيحملها حول المحلّ على أكتافه، ومن ثَمَّ في أحد الأيام رحلت، استبدلت بغريبة، امرأة غير متعاونة لا يعرف كيف يتحدث إليها.».
تحاول رواية «الكلمة الأخيرة» التبديل بين السجلّات بالطريقة نفسها، تحديد مكان يعلو أنانية ومشاحنات شخصياته لأجل تأمُّلات حول العمل الأدبي، و«العبرة متزايدة الأهميّة عن أن الفنّ عظيم، وأن أفضل الكلمات والجمل الجيدة، مؤثرة». الصعوبة الأساسية هي أن كلّاً من مأمون وهاري، خصوصاً، واهيان جداً نسبة للثقل الذي يرغب قرشي في أن يتحمَّلاه. مأمون مُسَلٍّ بما يكفي في دور المتبرِّم، بالرغم من أنه ما من إشارة تدعو أيا كان ليظنّ أنه فنان مهمّ (بعيداً من واقع أن شخصيات أخرى تظلّ تقول هذا). ينتهي هاري في مكان ما بين ما هو مجهول الملامح وما هو مثير. في حين يظهر بريق من الطرافة في كل مكان، النثر بالكاد يمتلك أي شيء من حيوية قرشي القديمة.
نظراً إلى أن إنجازات قرشي ربما تبدو غريبة في إشارتها إلى أنه ليس روائياً استثنائياً، ومع ذلك تمنح نهاية مهنته انطباعاً عن كاتب يدين بشكل أكبر للظروف وليس للإلهام. كلّ رواياته  (باستثناء «هدية جابرييل الحلوة»، 2011 )تبدو كنظرة ذاتية بطريقة أو بأخرى، وهذا بشكل عام جيد طالما المشهد ممتع أيضاً. لكنها هي المشكلة تماماً: «بوذا الضواحي» تبدو مدعومة بالملاحظات التي جُمِعت خلال سنوات، ولم تُستكمل بسهولة. وطالما أن الخلفيات تلاشت في عمل قرشي، لذا امتلكت هذا الحسّ الكهربائي للتحرير. ربما أوقعه نجاحه المذهل والمبكّر في جوٍّ أَماتَ مواهبه. «من السهل الضحك على السعادة البرجوازية»، أشار جاي، الراوي في «حميمية». ماهي الأنواع الأخرى الموجودة؟» إنه سؤال جدّيّ، لكنه ينمّ عن نوع من الواقعية التي تقترب بخطورة من نقص الأفكار.
*عن ملحق التايم الأدبي
ت- أماني لازار
عن مجلة الدوحة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملخص كتاب فن الإغواء  كتاب فن الإغواء هو أحد كتب روبرت غرين التي ألفها في مجال التنمية البشرية وإعداد الذات وصقلها، حيثُ يتناول كتاب...